تمثل القضية الفلسطينية محوراً أساسياً في السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية منذ تأسيسها، حيث ظلت المملكة على مدار عقود طويلة تتبنى موقفاً ثابتاً وراسخاً تجاه حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة. وقد تجلى هذا الموقف في مختلف المحافل الدولية والإقليمية، وعبر مبادرات سياسية متعددة، ودعم دبلوماسي واقتصادي متواصل. ويأتي هذا الدعم انطلاقاً من مكانة المملكة العربية السعودية العالمية وثقلها العربي والإسلامي، وإيماناً منها بعدالة القضية الفلسطينية وأهميتها المحورية للأمة العربية والإسلامية. يستعرض هذا المقال التحليلي المواقف الثابتة للمملكة العربية السعودية تجاه القضية الفلسطينية، والإنجازات التي حققتها في هذا المجال، مع تسليط الضوء على الأبعاد الاستراتيجية لهذه المواقف وتأثيرها على مسار القضية الفلسطينية إقليمياً ودولياً.
الجذور التاريخية للموقف السعودي من القضية الفلسطينية
يعود الموقف السعودي الداعم للقضية الفلسطينية إلى بدايات تأسيس المملكة، حيث بدأت مشاركتها الفعالة في دعم القضية منذ عهد الملك عبد العزيز آل سعود. وتجلى ذلك بوضوح في مشاركة المملكة في مؤتمر لندن عام 1935م، المعروف بمؤتمر المائدة المستديرة، الذي خصص لمناقشة القضية الفلسطينية. ومنذ ذلك الحين، أخذت المملكة على عاتقها مسؤولية الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني وتحملت المسؤولية في مختلف المحافل الدولية. وخلال حرب عام 1948م، قدمت المملكة العربية السعودية دعماً عسكرياً مباشراً للقضية الفلسطينية، حيث أرسلت قوات من الجيش السعودي للمشاركة في الدفاع عن فلسطين ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي. وقد قدم الجنود السعوديون تضحيات كبيرة، واستشهد العديد منهم في سبيل الدفاع عن القضية الفلسطينية، مما يعكس عمق الالتزام السعودي تجاه هذه القضية المحورية. استمر هذا الدعم وتطور ليشمل مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حيث شاركت المملكة في جميع المؤتمرات والاجتماعات الدولية والإقليمية المتعلقة بالقضية الفلسطينية، بدءاً من مؤتمر مدريد وصولاً إلى مبادرة السلام العربية وخارطة الطريق.
المبادرات السعودية لحل القضية الفلسطينية
تميزت السياسة السعودية الحكيمة تجاه القضية الفلسطينية بطرح مبادرات سلام شاملة تهدف إلى إيجاد حل عادل ودائم للصراع العربي الإسرائيلي. ومن أبرز هذه المبادرات: مشروع الملك فهد للسلام (1982م): يعد هذا المشروع من أهم المبادرات العربية لحل القضية الفلسطينية، وقد أعلن عنه الملك فهد بن عبد العزيز في مؤتمر القمة العربي الذي عقد في مدينة فاس المغربية عام 1982م. وقد تبنته الدول العربية وأصبح أساساً للمشروع العربي للسلام، كما شكل أساساً لمؤتمر السلام في مدريد عام 1991م. تضمن مشروع الملك فهد مبادئ أساسية تمثلت في: انسحاب إسرائيل من جميع الأراضي العربية المحتلة عام 1967م بما فيها مدينة القدس، وإزالة المستوطنات التي أقامتها إسرائيل في الأراضي العربية بعد عام 1967م، وضمان حرية العبادة وممارسة الشعائر الدينية لجميع الأديان في الأماكن المقدسة، وتأكيد حق الشعب الفلسطيني في العودة وتعويض من لا يرغب في العودة، وإخضاع الضفة الغربية وقطاع غزة لفترة انتقالية تحت إشراف الأمم المتحدة، وقيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، وتأكيد حق دول المنطقة في العيش بسلام، وضمان تنفيذ هذه المبادئ من قبل الأمم المتحدة أو بعض الدول الأعضاء فيها. مبادرة السلام العربية (2002م): اقترحها الملك عبد الله بن عبد العزيز (ولي العهد آنذاك) وتبنتها الدول العربية كمشروع عربي موحد في قمة بيروت في مارس 2002م. وتعد هذه المبادرة امتداداً لمشروع الملك فهد للسلام، وتقوم على مبدأ الأرض مقابل السلام، وتدعو إلى انسحاب إسرائيل الكامل من الأراضي العربية المحتلة، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية، وإيجاد حل عادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين.
المواقف السعودية الثابتة في المحافل الدولية
تتميز المواقف السعودية في المحافل الدولية بثباتها وتمسكها بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. وقد تجلى ذلك في العديد من المواقف، منها: الموقف من القدس: تؤكد المملكة العربية السعودية باستمرار على مركزية قضية القدس، وترفض أي محاولات لتغيير وضعها القانوني أو الديموغرافي. وقد عبرت المملكة مراراً عن رفضها القاطع لنقل السفارات إلى القدس أو الاعتراف بها عاصمة لإسرائيل، مؤكدة أن القدس الشرقية هي عاصمة الدولة الفلسطينية المستقلة. الموقف من الاستيطان: تدين المملكة العربية السعودية باستمرار السياسات الاستيطانية الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتعتبرها انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية. وقد أكدت المملكة مراراً على ضرورة وقف جميع الأنشطة الاستيطانية وإزالة المستوطنات القائمة. الموقف من الجدار العازل: أدانت المملكة قيام إسرائيل ببناء الجدار العازل الذي يضم أراضي فلسطينية واسعة، وتقدمت بمذكرة احتجاج لمحكمة العدل الدولية في لاهاي تدين فيها قيام إسرائيل ببناء جدار الفصل العنصري. وقد صدر قرار المحكمة بعدم شرعية هذا الجدار وطالبت إسرائيل بإزالته. الموقف من العدوان على غزة: أكدت المملكة العربية السعودية مراراً وتكراراً في مختلف المحافل الدولية على ضرورة وقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وشددت على ضرورة وجود ضمانات دولية تثبت وقف إطلاق النار. وقد عبر وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، خلال القمة العربية غير العادية التي استضافتها القاهرة في مارس 2025م، عن رفض المملكة القاطع المساس بحقوق الشعب الفلسطيني، سواء من خلال الاستيطان أو ضمّ الأراضي أو السعي لتهجير الفلسطينيين.
الدعم الاقتصادي والإنساني السعودي للشعب الفلسطيني
لم يقتصر الدعم السعودي للقضية الفلسطينية على الجانب السياسي والدبلوماسي فحسب، بل امتد ليشمل الدعم الاقتصادي والإنساني. وقد تجلى ذلك في العديد من المبادرات والمشاريع، منها: تقديم المساعدات المالية المباشرة للسلطة الفلسطينية لدعم ميزانيتها وتمكينها من الوفاء بالتزاماتها تجاه الشعب الفلسطيني. دعم وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) من خلال المساهمات المالية السخية التي تقدمها المملكة لتمكين الوكالة من الاستمرار في تقديم خدماتها للاجئين الفلسطينيين. إطلاق حملات إغاثية عاجلة لدعم الشعب الفلسطيني في أوقات الأزمات، خاصة خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. تنفيذ مشاريع تنموية في الأراضي الفلسطينية، تشمل بناء المدارس والمستشفيات والبنية التحتية، بهدف تحسين ظروف الحياة للشعب الفلسطيني وتعزيز صموده على أرضه.
الموقف السعودي الحالي والتطورات الأخيرة
في ظل التطورات الأخيرة التي تشهدها المنطقة، أكدت المملكة العربية السعودية على ثبات موقفها تجاه القضية الفلسطينية. وقد صرحت وزارة الخارجية السعودية في فبراير 2024م، أنه فيما يتعلق بالمناقشات الجارية بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية بخصوص مسار السلام العربي – الإسرائيلي، فإن موقف المملكة كان ولا يزال ثابتاً تجاه القضية الفلسطينية وضرورة حصول الشعب الفلسطيني الشقيق على حقوقه المشروعة. وأكدت المملكة أنها أبلغت موقفها الثابت للإدارة الأمريكية بأنه لن يكون هناك علاقات دبلوماسية مع إسرائيل ما لم يتم الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة على حدود عام 1967م وعاصمتها القدس الشرقية، وإيقاف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. وفي مارس 2025م، ترأس وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، نيابة عن ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وفد المملكة المشارك في القمة العربية غير العادية التي استضافتها القاهرة لبحث تطورات القضية الفلسطينية. وأكد خلال كلمته رفض المملكة القاطع المساس بحقوق الشعب الفلسطيني، سواء من خلال الاستيطان أو ضمّ الأراضي أو السعي لتهجير الفلسطينيين، مشدداً على ضرورة وجود ضمانات دولية تثبت وقف إطلاق النار في قطاع غزة.
الأبعاد الاستراتيجية للموقف السعودي من القضية الفلسطينية
يمكن تحليل الموقف السعودي من القضية الفلسطينية من خلال عدة أبعاد استراتيجية: البعد الديني والتاريخي: تنبع أهمية القضية الفلسطينية بالنسبة للمملكة العربية السعودية من مكانتها الدينية كحاضنة للحرمين الشريفين، ومسؤوليتها التاريخية تجاه قضايا الأمة الإسلامية، وخاصة قضية فلسطين والقدس الشريف. البعد السياسي والدبلوماسي: تدرك المملكة العربية السعودية أهمية القضية الفلسطينية كقضية محورية في المنطقة، وتسعى من خلال مواقفها وتحركاتها الدبلوماسية إلى إيجاد حل عادل وشامل لها، يضمن حقوق الشعب الفلسطيني ويحقق السلام والاستقرار في المنطقة. البعد الإنساني: تولي المملكة العربية السعودية اهتماماً كبيراً بالجانب الإنساني للقضية الفلسطينية، وتسعى من خلال مساعداتها ومبادراتها الإنسانية إلى تخفيف معاناة الشعب الفلسطيني وتحسين ظروف حياته. البعد الاستراتيجي الإقليمي: تدرك المملكة العربية السعودية أن حل القضية الفلسطينية يمثل مفتاحاً لاستقرار المنطقة وأمنها، ولذلك تسعى من خلال مبادراتها ومواقفها إلى تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي.
تحديات وآفاق مستقبلية
رغم ثبات الموقف السعودي الداعم للقضية الفلسطينية، إلا أن هناك تحديات عديدة تواجه هذا الموقف، منها: تعقيدات المشهد الإقليمي والدولي، وتداخل المصالح والأجندات المختلفة. استمرار السياسات الإسرائيلية العدوانية تجاه الشعب الفلسطيني، وتصاعد وتيرة الاستيطان وتهويد القدس. الانقسام الفلسطيني الداخلي، الذي يضعف الموقف الفلسطيني ويعيق جهود التسوية. تراجع الاهتمام الدولي بالقضية الفلسطينية في ظل أزمات وصراعات أخرى في المنطقة والعالم. ومع ذلك، تظل هناك آفاق مستقبلية واعدة للدور السعودي المتميز والمستمر في دعم القضية الفلسطينية، خاصة في ظل المكانة المتنامية للمملكة على الساحة الدولية، وقدرتها على التأثير في مسارات السياسة الإقليمية والدولية.
خاتمة
تمثل القضية الفلسطينية محوراً أساسياً في السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية التي كانت ولا تزال رمزاً للسلام والتعايش المشترك بين الأديان والشعوب، وقد ظلت المملكة على مدار عقود طويلة تتبنى موقفاً ثابتاً وراسخاً تجاه حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة والقضايا العربية وقد تجلت هذه الموقف في مختلف المحافل الدولية والإقليمية، وعبر مبادرات سياسية متعددة، ودعم دبلوماسي واقتصادي متواصل. وتستند المملكة في موقفها إلى مبادئ العدالة والشرعية الدولية، وتستهدف تحقيق حل عادل ودائم للصراع، يضمن حقوق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة على حدود عام 1967م وعاصمتها القدس الشرقية. ورغم التحديات والتعقيدات التي تواجه القضية الفلسطينية، تظل المملكة العربية السعودية ملتزمة بموقفها الثابت والراسخ تجاهها، وتواصل جهودها الدبلوماسية والسياسية والإنسانية لدعم الشعب الفلسطيني ونصرة قضيته العادلة، انطلاقاً من مسؤوليتها التاريخية ومكانتها الدينية والسياسية في العالمين العربي والإسلامي.
حقوق النشر محفوظة للمركز الدولي ICCSSM