مقدمة تحليلية من المركز الدولي ICCSSM:
على مدى نصف قرن، برزت دول الخليج، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، كأحد أهم مصادر الدعم المالي والاقتصادي للدول العربية. لم يقتصر هذا الدور على تقديم المساعدات الإنسانية والإغاثية فحسب، بل امتد ليشمل دعم مشاريع التنمية المستدامة وتعزيز الاستقرار المالي والسياسي في المنطقة. وتأتي القضية الفلسطينية في صدارة أولويات هذه المساعدات، باعتبارها محوراً مركزياً للصراع الإقليمي والدولي ومؤشراً على التزام الدول الخليجية بقضايا الأمة.
حجم الدعم الاقتصادي والمالي للدول العربية: أرقام ودلالات
منذ عام 1975 وحتى عام 2024، قدمت المملكة العربية السعودية وحدها مساعدات إنمائية وإنسانية تقارب نصف تريليون ريال سعودي (ما يعادل نحو 132 مليار دولار)، شملت أكثر من 171 دولة حول العالم ونفذت عبر أكثر من سبعة آلاف مشروع تنموي وإغاثي. ويتركز الجزء الأكبر من هذه المساعدات في المنطقة العربية حيث تتصدر فلسطين ومصر واليمن ولبنان قائمة الدول المستفيدة.
هذا الحجم الضخم من التدفقات المالية لم يكن مجرد استجابة للأزمات الطارئة أو الكوارث الطبيعية فحسب؛ بل جاء ضمن رؤية استراتيجية تهدف إلى تعزيز التنمية المستدامة وتحقيق الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في البلدان الشقيقة. وقد انعكس ذلك بوضوح على مؤشرات التنمية البشرية والبنية التحتية والخدمات الأساسية والتعليم والصحة في العديد من الدول المتلقية للمساعدة.
السياسة المالية وأثرها على التنمية والاستقرار الإقليمي
اعتمدت السياسات المالية السعودية والخليجية بشكل رئيسي على توظيف عوائد النفط والغاز لدعم الاقتصادات الأقل حظاً بالموارد الطبيعية أو تلك التي تعاني اضطرابات سياسية واقتصادية مزمنة. وقد ساهم هذا النهج ليس فقط في تخفيف حدة الأزمات الإنسانية وإنما أيضاً في إرساء قواعد الاستقرار المالي العالمي عبر ضخ السيولة وضمان تدفق رؤوس الأموال إلى الأسواق الناشئة والمتعثرة.
كما لعبت صناديق التنمية والمؤسسات الخيرية الرسمية دوراً محورياً بتنفيذ سياسات شفافة ومنظمة لتوزيع المنح والقروض والمساهمات الاستثمارية بما يتوافق مع أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة وخطط الإصلاح الاقتصادي الوطني لدى البلدان المتلقية للمساعدة.
تكلفة القضية الفلسطينية: بين الالتزام الأخلاقي والحساب الاقتصادي
تشكل القضية الفلسطينية نموذجاً خاصاً لحجم وتنوع الدعم السعودي والخليجي خلال العقود الخمسة الماضية. فقد تجاوز إجمالي ما قدمته المملكة وحدها للفلسطينيين مليارات الدولارات سواء بشكل مباشر للسلطة الوطنية أو عبر وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) والمنظمات الدولية الأخرى ذات الصلة.
وتشير البيانات إلى أن السعودية خصصت منذ بداية القرن الحالي فقط أكثر من 480 مليون دولار دعماً نقدياً مباشراً للسلطة الفلسطينية بالإضافة لأكثر من ربع مليار دولار كمساهمات للأونروا وعبر جامعة الدول العربية وصندوق القدس وغيرها من المبادرات الجماعية والفردية الداعمة لصمود الشعب الفلسطيني ومؤسساته المدنية والاجتماعية والصحية والتعليمية والإعمار بعد الحروب والكوارث المتكررة التي شهدتها وقطاع غزة تحديداً.
ولا تقتصر التكلفة الاقتصادية للقضية الفلسطينية عند حدود التحويل النقدي المباشر؛ إذ تشمل كذلك تكاليف إعادة إعمار البنى التحتية والمرافق الحيوية ودعم اللاجئين الفلسطينيين المنتشرين داخل وخارج الأراضي وتمويل المشاريع التنموية طويلة الأجل الهادفة لتعزيز الاعتماد الذاتي وتقليل الفقر والبطالة وسط بيئة اقتصادية وسياسية شديدة التعقيد والتغير الدائم بفعل الاحتلال الإسرائيلي والحصار المفروض والأزمات الإقليمية والدولية المتلاحقة.
دور النفط والغاز والصراع الاقتصادي الدولي والإقليمي
ارتبط حجم ونوعية المساعدات الخليجية والسعودية ارتباطًا وثيقًا بتطور أسعار النفط وحجم العائدات السنوية للخزائن العامة لهذه البلدان الغنية بالطاقة الأحفورية. ففي سنوات الطفرة النفطية ارتفع سقف الإنفاق التنموي الخارجي بشكل ملحوظ وشمل برامج ضخمة لإعادة إعمار لبنان والعراق وفلسطين واليمن والسودان وغيرها بعد الحروب والنزاعات الداخلية والكوارث الطبيعية الكبرى مثل الزلازل والجفاف والأوبئة الصحية العابرة للحدود الجغرافيا السياسية التقليدية للعالم العربي والإسلامي.
وفي المقابل فرض الصراع الدولي حول الطاقة والتحولات الجيوسياسية الجديدة تحديات إضافيه أمام استمرار تدفق هذه الموارد بنفس الوتيرة السابقة خاصة مع تصاعد المنافسة العالمية والتحولات نحو الاقتصاد الأخضر والطاقة البديلة وانخفاض الطلب النسبي على الوقود الأحفوري مما دفع الحكومات الخليجبة لاعتماد سياسات مالية أكثر انتقائية وتركيزا وتأثيرا لضمان استمرارية العطاء وتحقيق أقصى درجات الفعالية الاقتصادية والاجتماعية المرجوة لكل دولار يتم ضخه خارج الحدود الوطنية لصالح الأشقاء العرب والمسلمين وباقي شعوب العالم النامي والمتضررين جراء النزاعات المسلحة والكوارث البيئية والصحية المعاصرة والمعقدة بطبيعتها البنيوية والسياسية والثقافية أيضاََ .
الدور المحوري للسعوديه في إرساء الاستقرار المالي العالمي والعربي
لم يعد الدور السعودي مقتصرا فقط على تقديم المنح والهبات والقروض الحسنة بل تطور ليصبح أحد أعمدة النظام المالي العالمي الجديد القائم علي الشراكة والتكامل والتنمية المشتركة بين الشمال الغني والجنوب الفقير . فقد احتلت الرياض المرتبة الرابعة عالميا بين أكبر مانحي المساعدات الإنسانية بحسب منصة التتبع المالي التابعة للأمم المتحدة لعام 2023 ، كما أسست منصاتها الرقمية الخاصة لتوثيق وتنظيم عمليات العطاء الخارجي وضمان وصوله للفئات الأكثر حاجة وشفافية الإجراءات الرقابية والتنفيذ العملي للمبادرات الحكومية وغير الحكومية .
وقد عزز هذا النهج مكانة المملكة كفاعل رئيسي لا غنى عنه ضمن منظومة الأمن والاستقرار السياسي والاجتماعي ليس فقط عربيا وإسلاميا بل أيضا دوليا ، خاصة مع تصاعد الحاجة العالمية لتمويل خطط التعافي الاقتصادي بعد جائحة كورونا وتداعيات الحروب التجارية والنزاعات العسكرية الممتدة شرق المتوسط وشمال أفريقيا وجنوب آسيا .
خاتمة تحليل : آفاق مستقبل الدعم الخليجي
في ضوء ما سبق يتضح أن سياسة المساعدات الخارجية السعودية والخليجبة شكلّت رافعة أساسية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة وتعزيز مقومات الصمود الوطني والمؤسسي للشعوب والدول الأكثر هشاشة وضعفاً اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً . ومع استمرار حالة عدم اليقين الجيوسياسي وتنامى المخاطر البيئية والتكنولوجيه يبقى الرهان قائما علي قدرة هذه الاقتصادات الريعية الكبرى علي مواصلة أداء رسالتها التاريخيه والانسانبه تجاه قضايا الأمة وفي مقدمتها فلسطين، دون التفريط بمكتسباتها الوطنية واستحقاقات أجيال المستقبل الباحث عن فرص أفضل للحياة والعمل والسلام المشترك. من هذا المنطلق يرى المركز الدولي، أن الدول الخليجية وخاصة المملكة العربية السعودية كان لها دوراً محورياً في إستقرار الدعم العالمي والمالي عبر عدة محاور رئيسية وهي الطاقة وأسواق النفط، و الإستثمار السيادي، والمساعدات الإنسانية والمالية، والسياسة المالية الحكيمة، والإبتكار والتحول الإقتصادي. وتدفع خطط التحول مثل رؤية السعودية 2030 بإتجاه تنويع مصادر الدخل، وتعزيز الإقتصاد العالمي عبر الشراكات الإستثمارية والتجارية، والتوسع في الطاقة المتجددة والتكنولوجيا.
إن كل تلك المبالغ التي ضخت من الدول الخليجية والسعودية بالتعاون من شركائهم الدوليين تجاه إستقرار الشرق الأوسط والإقتصاد العالمي، كان لها الأثر المهم والمتميز والإنساني في إنقاذ العديد من الدول النامية من براثن الفقر والجوع ومكافحة التطرف والإرهاب وإنتشار الأمراض والأوبئة دون مقابل بل فقط نابع من العمل الخيري التي قدمته تلك الدول من ميزانيتها الخاصة تجاه تلك الشعوب والدول.
ICCSSM